إذا کان الله قدَّر علیّ أفعالی فلماذا یحاسبنی؟قال صدیقی فی شماتة وقد تصوّر أنه أمسکنی من عنقی وأنه لا مهرب لی هذه المرة أنتم تقولون إن الله یُجری کل شیء فی مملکته بقضاء وقدر، وإن الله قدَّر علینا أفعالنا ، فإذا کان هذا هو حالی ، وأن أفعالی کلها مقدّرة عنده فلماذا یحاسبنی علیها ؟لا تقل لی کعادتک .. أنا مخیـَّر .. فلیس هناک فریة أکبر من هذه الفریة ودعنی أسألک هل خُـیّرتُ فی میلادی وجنسی وطولی وعرضی ولونی ووطنی ؟هل باختیاری تشرق الشمس ویغرب القمر ؟هل باختیاری ینزل علیَّ القضاء ویفاجئنی الموت وأقع فی المأساة فلا أجد مخرجاً إلا الجریمة لماذا یُکرهنی الله علی فعل ثم یؤاخذنی علیه ؟وإذا قلت إنک حر ، وإن لک مشیئة إلی جوار مشیئة الله ألا تشرک بهذا الکلام وتقع فی القول بتعدد المشیئات ؟ثم ما قولک فی حکم البیئة والظروف ، وفی الحتمیات التی یقول بها المادیون التاریخیون ؟أطلق صاحبی هذه الرصاصات ثم راح یتنفس الصعداء فی راحة وقد تصوَّر أنی توفیت وانتهیت ، ولم یبق أمامه إلا استحضار الکفنقلت له فی هدوء أنت واقع فی عدة مغالطات .. فأفعالک معلومة عند الله فی کتابه ، ولکنها لیست مقدورة علیک بالإکراه .. إنها مقدَّرة فی علمه فقط .. کما تقدّر أنت بعلمک أن ابنک سوف یزنی .. ثم یحدث أن یزنی بالفعل .. فهل أکرهته .. أو کان هذا تقدیراً فی العلم وقد أصاب علمکأما کلامک عن الحریة بأنها فریة ، وتدلیلک علی ذلک بأنک لم تخیَّر فی میلادک ولا فی جنسک ولا فی طولک ولا فی لونک ولا فی موطنک ، وأنک لا تملک نقل الشمس من مکانها .. هو تخلیط آخر وسبب التخلیط هذه المرة أنک تتصوَّر الحریة بالطریقة غیر تلک التی نتصورها نحن المؤمنینأنت تتکلم عن حریة مطلقة .. فتقول .. أکنت أستطیع أن أخلق نفسی أبیض أو أسود أو طویلا أو قصیراً .. هل بإمکانی أن أنقل الشمس من مکانها أو أوقفها فی مدارها .. أین حریتی ؟ونحن نقول له : أنت تسأل عن حریة مطلقة .. حریة التصرف فی الکون وهذه ملک لله وحده .. نحن أیضاً لا نقول بهذه الحریة { وَرَبُّکَ یَخْلُقُ مَا یَشَاء وَیَخْتَارُ مَا کَانَ لَهُمُ الْخِیَرَةُ } 68 سورة القصصلیس لأحد الخیرة فی مسألة الخلق ، لأن الله هو الذی یخلق ما یشاء ویختار ولن یحاسبک الله علی قِصَرک ولن یعاتبک علی طولک ولن یعاقبک لأنک لم توقف الشمس فی مدارها ، ولکن مجال المساءلة هو مجال التکلیف .. وأنت فی هذا المجال حر .. وهذه هی الحدود التی نتکلم فیها أنت حر فی أن تقمع شهوتک وتلجم غضبک وتقاوم نفسک وتزجر نیاتک الشریرة وتشجع میولک الخیرةأنت تستطیع أن تجود بمالک ونفسک أنت تستطیع أن تصدق وأن تکذب وتستطیع أن تکف یدک عن المال الحرام وتستطیع أن تکف بصرک عن عورات الآخرین وتستطیع أن تمسک لسانک عن السباب والغیبة والنمیمة فی هذا المجال نحن أحرار وفی هذا المجال نُحاسَب ونُسأل الحریة التی یدور حولها البحث هی الحریة النسبیة ولیست الحریة المطلقة حریة الإنسان فی مجال التکلیفوهذه الحریة حقیقة ودلیلنا علیها هو شعورنا الفطری بها فی داخلنا فنحن نشعر بالمسئولیة وبالندم علی الخطأ ، وبالراحة للعمل الطیب .. ونحن نشعر فی کل لحظة أننا نختار ونوازن بین احتمالات متعددة ، بل إن وظیفة عقلنا الأولی هی الترجیح والاختیار بین البدیلات ونحن نفرق بشکل واضح وحاسم بین یدنا وهی ترتعش بالحمی ، ویدنا وهی تکتب خطاباً .. فنقول إن حرکة الأولی جبریة قهریة ، والحرکة الثانیة حرة اختیاریة .. ولو کنا مسیرین فی الحالتین لما استطعنا التفرقةویؤکد هذه الحریة ما نشعر به من استحالة إکراه القلب علی شیء لا یرضاه تحت أی ضغط .. فیمکنک أن تُکره امرأة بالتهدید والضرب علی أن تخلع ثیابها .. ولکنک لا تستطیع بأی ضغط أو تهدید أن تجعلها تحبک من قلبها ومعنی هذا أن الله أعتق قلوبنا من کل صنوف الإکراه والإجبار ، وأنه فطرها حرة ولهذا جعل الله القلب والنیة عمدة الأحکام ، فالمؤمن الذی ینطق بعبارة الشرک والکفر تحت التهدید والتعذیب لا یحاسب علی ذلک طالما أن قلبه من الداخل مطمئن بالإیمان ، وقد استثناه الله من المؤاخذة فی قوله تعالی: { إِلاَّ مَنْ أُکْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإِیمَانِ ٌ} 106 سورة النحلوالوجه الآخر من الخلط فی هذه المسألة أن بعض الناس یفهم حریة الإنسان بأنها علو علی المشیئة ، وانفراد بالأمر فیتهم القائلین بالحریة بأنهم أشرکوا بالله وجعلوا له أنداداً یأمرون کأمره ، ویحکمون کحکمه ، وهذا ما فهمته أنت أیضاً فقلت بتعدد المشیئات .. وهو فهم خاطئ .. فالحریة الإنسانیة لا تعلو علی المشیئة الإلهیة إن الإنسان قد یفعل بحریته ما ینافی الرضا الإلهی ولکنه لا یستطیع أن یفعل ما ینافی المشیئة الله أعطانا الحریة أن نعلو علی رضاه "فنعصیه" ، ولکن لم یعط أحداً الحریة فی أن یعلو علی مشیئته .. وهنا وجه آخر من وجوه نسبیة الحریة الإنسانیة وکل ما یحدث منا داخل فی المشیئة الإلهیة وضمنها ، وإن خالف الرضا الإلهی وجانب الشریعة وحریتنا ذاتها کانت منحة إلهیة وهبة منحها لنا الخالق باختیاره .. ولم نأخذها منه کرهاً ولا غصباً إن حریتنا کانت عین مشیئته ومن هنا معنی الآیة : {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلا أَن یَشَاء اللَّهُ } 30 سورة الإنسانلأن مشیئتنا ضمن مشیئته ، ومنحة منه ، وهبة من کرمه وفضله ، فهی ضمن إرادته لا ثنائیة ولا تناقض ، ولا منافسة منا لأمر الله وحکمه والقول بالحریة بهذا المعنی لا ینافی التوحید ، ولا یجعل لله أنداداً یحکمون کحکمه ویأمرون کأمره .. فإن حریاتنا کانت عین أمره ومشیئته وحکمه والوجه الثالث للخلط أن بعض من تناولوا مسألة القضاء والقدر والتسییر والتخییر .. فهموا القضاء والقدر بأنه إکراه للإنسان علی غیر طبعه وطبیعته وهذا خطأ وقعت فیه أنت أیضاً .. وقد نفی الله عن نفسه الإکراه بآیات صریحة {إِن نَّشَأْ نُنَزّلْ عَلَیْهِم مِّن السَّمَاء آیَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِینَ} 4 سورة الشعراءوالمعنی واضح .. أنه کان من الممکن أن نُکره الناس علی الإیمان بالآیات الملزمة ، ولکننا لم نفعل .. لأنه لیس فی سنتنا الإکراه { لاَ إِکْرَاهَ فِی الدّینِ قَد تَّبَیَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَیِّ } 256 سورة البقرة{ وَلَوْ شَاء رَبُّکَ لآمَنَ مَن فِی الأَرْضِ کُلُّهُمْ جَمِیعًا أَفَأَنتَ تُکْرِهُ النَّاسَ حَتَّی یَکُونُواْ مُؤْمِنِینَ } 99 سورة یونسلیس فی سُنة الله الإکراه والقضاء والقدر لا یصح أن یُفهم علی أنه إکراه للناس علی غیر طبائعهم .. وإنما علی العکس الله یقضی علی کل إنسان من جنس نیته .. ویشاء له من جنس مشیئته ، ویرید له من جنس إرادته ، لا ثنائیة ... تسییر الله هو عین تخییر العبد ، لأنه الله یسیِّر کل امرئ علی هوی قلبه وعلی مقتضی نیاته { مَن کَانَ یُرِیدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزدْ لَهُ فِی حَرْثِهِ وَمَن کَانَ یُرِیدُ حَرْثَ الدُّنْیَا نُؤتِهِ مِنْهَا } 20 سورة الشوری{ فِی قُلُوبهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً } 10 سورة البقرة{ وَالَّذینَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًی } 17 سورة محمدوهو یخاطب الأسری فی القرآن { إِن یَعْلَمِ اللّهُ فِی قُلُوبکُمْ خَیْرًا یُؤْتِکُمْ خَیْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنکُمْ } 70 سورة الأنفالالله یقضی ویقدّر ، ویجری قضاءه وقدره علی مقتضی النیة والقلب .. إن شراً فشر وإن خیراً فخیرومعنی هذا أنه لا ثنائیة .. التسییر هو عین التخییر .. ولا ثنائیة ولا تناقض الله یسیِّرنا إلی ما اخترناه بقلوبنا ونیاتنا، فلا ظلم ولا إکراه ولا جبر ، ولا قهر لنا علی غیر طبائعنا { فَأَمَّا مَن أَعْطَی وَاتَّقَی . وَصَدَّقَ بالْحُسْنَی . فَسَنُیَسّرُهُ لِلْیُسْرَی . وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَی . وَکَذَّبَ بالْحُسْنَی . فَسَنُیَسّرُهُ لِلْعُسْرَی } 5 سورة اللیل{ وَمَا رَمَیْتَ إِذْ رَمَیْتَ وَلَکِنَّ اللّهَ رَمَی } 17 سورة الأنفالهنا تلتقی رمیة العبد والرمیة المقدَّرة من الرب ، فتکون رمیة واحدة.. وهذا مفتاح لغز القضاء والقدر .. علی العبد النیة، وعلی الله التمکین، إن خیراً فخیر، وإن شراً فشروالحریة الإنسانیة لیست مقداراً ثابتاً ، ولکنها قدرة نسبیة قابلة للزیادة الإنسان یستطیع أن یزید من حریته بالعلم .. باختراع الوسائل والأدوات والمواصلات استطاع الإنسان أن یطوی الأرض ، ویهزم المسافات ، ویخترق قیود الزمان والمکان .. وبدراسة قوانین البیئة استطاع أن یتحکم فیها ویسخرها لخدمته، وعرف کیف یهزم الحر والبرد والظلام ، وبذلک یضاعف من حریاته فی مجال الفعل العلم کان وسیلة إلی کسر القیود والأغلال وإطلاق الحریة أما الوسیلة الثانیة فکانت الدین .. الاستمداد من الله بالتقرب منه .. والأخذ عنه بالوحی والتلقی والتأیید .. وهذه وسیلة الأنبیاء ومن فی دربهم سخّر سلیمان الجن ورکب الریح وکلّم الطیر بمعونة الله ومدده وشق موسی البحر .. وأحیا المسیح الموتی .. ومشی علی الماء .. وأبرأ الأکمه والأبرص والأعمی ونقرأ عن الأولیاء أصحاب الکرامات الذین تُطوی لهم الأرض وتکشف لهم المغیبات وهی درجات من الحریة اکتسبوها بالاجتهاد فی العبادة والتقرب إلی الله والتحبب إلیه .. فأفاض علیهم من علمه المکنون إنه العلم مرة أخریولکنه هذه المرة العلم "اللدنی"ولهذا یُلخص أبو حامد الغزالی مشکلة المخیَّر والمسیَّر قائلاً فی کلمتین الإنسان مخیَّر فیما یعلم مسیَّر فیما لا یعلم وهو یعنی بهذا أنه کلما اتسع علمه اتسع مجال حریته .. سواء کان العلم المقصود هو العلم الموضوعی أو العلم اللدنِّی ویخطئ المفکرون المادیون أشد الخطأ حینما یتصورون الإنسان أسیر الحتمیات التاریخیة والطبقیة .. ویجعلون منه حلقة فی سلسلة من الحلقات لا فکاک له ، ولا مهرب من الخضوع لقوانین الاقتصاد وحرکة المجتمع ، کأنما هو قشة فی تیار بلا ذراعین وبلا إرادة والکلمة التی یرددونها ولا یتعبون من تردیدها وکأنها قانون : "حتمیة الصراع الطبقی" وهی کلمة خاطئة فی التحلیل العلمی ، لأنه لا حتمیات فی المجال الإنسانی ، وإنما علی الأکثر ترجیحات واحتمالات .. وهذا هو الفرق بین الإنسان ، وبین التروس ، والآلات والأجسام المادیة .. فیمکن التنبوء بخسوف الشمس بالدقیقة والثانیة ، ویمکن التنبؤ بحرکاتها المستقبلة علی مدی أیام وسنین .. أما الإنسان فلا یمکن أن یعلم أحد ماذا یُضمر وماذا یُخبئ فی نیاته ، وماذا یفعل غداً أو بعد غد .. ولا یمکن معرفة هذا إلا علی سبیل الاحتمال والترجیح والتخمین ، وذلک علی فرض توفر المعلومات الکافیة للحکم ..وقد أخطأت جمیع تنبؤات کارل مارکس ، فلم تبدأ الشیوعیة فی بلد متقدم کما تنبأ ، بل فی بلد متخلف ، ولم یتفاقم الصراع بین الرأسمالیة والشیوعیة ، بل تقارب الاثنان إلی حالة من التعایش السلمی ، وأکثر من هذا فتحت البلاد الشیوعیة أبوابها لرأس المال الأمریکی .. ولم تتصاعد التناقضات فی المجتمع الرأسمالی إلی الإفلاس الذی توقعه کارل مارکس ، بل علی العکس ، ازدهر الاقتصاد الرأسمالی ووقع الشقاق والخلاف بین أطراف المعسکر الاشتراکی ذاته أخطأت حسابات مارکس جمیعها دالة بذلک علی خطأ منهجه الحتمی .. ورأینا صراع العصر الذی یحرک التاریخ هو الصراع اللاطبقی بین الصین وروسیا ، ولیس الصراع الطبقی الذی جعله مارکس عنوان منهجه .. وکلها شواهد علی فشل الفکر المادی فی فهم الإنسان والتاریخ ، وتخبطه فی حساب المستقبل .. وجاء کل ذلک نتیجة خطأ جوهری ، هو أن الفکر المادی تصوَّر أن الإنسان ذبابة فی شبکة من الحتمیات .. ونسی تماماً أنّ الإنسان حر .. وأن حریته حقیقة أمّا کلام المادیین عن حکم البیئة والمجتمع والظروف ، وأن الإنسان لا یعیش وحده ولا تتحرک حریته فی فراغنقول ردّاً علی هذا الکلام : إن حکم البیئة والمجتمع والظروف کمقاومات للحریة الفردیة إنما یؤکد المعنی الجدلی لهذه الحریة ولا ینفیه .. فالحریة الفردیة .. لا تؤکد ذاتها إلا ّ فی وجه مقاومة تزحزحهاأما إذا کان الإنسان یتحرک فی فراغ بلا مقاومة من أی نوع فإنه لا یکون حراً بالمعنی المفهوم للحریة، لأنه لن تکون هناک عقبة یتغلب علیها ویؤکد حریته من خلالها
إذا كان الله قدَّر عليّ أفعالي فلماذا يحاسبني؟قال صديقي في شماتة وقد تصوّر أنه أمسكني من عنقي وأنه لا مهرب لي هذه المرة أنتم تقولون إن الله يُجري كل شيء في مملكته بقضاء وقدر، وإن الله قدَّر علينا أفعالنا ، فإذا كان هذا هو حالي ، وأن أفعالي كلها مقدّرة عنده فلماذا يحاسبني عليها ؟لا تقل لي كعادتك .. أنا مخيـَّر .. فليس هناك فرية أكبر من هذه الفرية ودعني أسألك هل خُـيّرتُ في ميلادي وجنسي وطولي وعرضي ولوني ووطني ؟هل باختياري تشرق الشمس ويغرب القمر ؟هل باختياري ينزل عليَّ القضاء ويفاجئني الموت وأقع في المأساة فلا أجد مخرجاً إلا الجريمة لماذا يُكرهني الله على فعل ثم يؤاخذني عليه ؟وإذا قلت إنك حر ، وإن لك مشيئة إلى جوار مشيئة الله ألا تشرك بهذا الكلام وتقع في القول بتعدد المشيئات ؟ثم ما قولك في حكم البيئة والظروف ، وفي الحتميات التي يقول بها الماديون التاريخيون ؟أطلق صاحبي هذه الرصاصات ثم راح يتنفس الصعداء في راحة وقد تصوَّر أني توفيت وانتهيت ، ولم يبق أمامه إلا استحضار الكفنقلت له في هدوء أنت واقع في عدة مغالطات .. فأفعالك معلومة عند الله في كتابه ، ولكنها ليست مقدورة عليك بالإكراه .. إنها مقدَّرة في علمه فقط .. كما تقدِّر أنت بعلمك أن ابنك سوف يزني .. ثم يحدث أن يزني بالفعل .. فهل أكرهته .. أو كان هذا تقديراً في العلم وقد أصاب علمكأما كلامك عن الحرية بأنها فرية ، وتدليلك على ذلك بأنك لم تخيَّر في ميلادك ولا في جنسك ولا في طولك ولا في لونك ولا في موطنك ، وأنك لا تملك نقل الشمس من مكانها .. هو تخليط آخر وسبب التخليط هذه المرة أنك تتصوَّر الحرية بالطريقة غير تلك التي نتصورها نحن المؤمنينأنت تتكلم عن حرية مطلقة .. فتقول .. أكنت أستطيع أن أخلق نفسي أبيض أو أسود أو طويلا أو قصيراً .. هل بإمكاني أن أنقل الشمس من مكانها أو أوقفها في مدارها .. أين حريتي ؟ونحن نقول له : أنت تسأل عن حرية مطلقة .. حرية التصرف في الكون وهذه ملك لله وحده .. نحن أيضاً لا نقول بهذه الحرية { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ } 68 سورة القصصليس لأحد الخيرة في مسألة الخلق ، لأن الله هو الذي يخلق ما يشاء ويختار ولن يحاسبك الله على قِصَرك ولن يعاتبك على طولك ولن يعاقبك لأنك لم توقف الشمس في مدارها ، ولكن مجال المساءلة هو مجال التكليف .. وأنت في هذا المجال حر .. وهذه هي الحدود التي نتكلم فيها أنت حر في أن تقمع شهوتك وتلجم غضبك وتقاوم نفسك وتزجر نياتك الشريرة وتشجع ميولك الخيرةأنت تستطيع أن تجود بمالك ونفسك أنت تستطيع أن تصدق وأن تكذب وتستطيع أن تكف يدك عن المال الحرام وتستطيع أن تكف بصرك عن عورات الآخرين وتستطيع أن تمسك لسانك عن السباب والغيبة والنميمة في هذا المجال نحن أحرار وفي هذا المجال نُحاسَب ونُسأل الحرية التي يدور حولها البحث هي الحرية النسبية وليست الحرية المطلقة حرية الإنسان في مجال التكليفوهذه الحرية حقيقة ودليلنا عليها هو شعورنا الفطري بها في داخلنا فنحن نشعر بالمسئولية وبالندم على الخطأ ، وبالراحة للعمل الطيب .. ونحن نشعر في كل لحظة أننا نختار ونوازن بين احتمالات متعددة ، بل إن وظيفة عقلنا الأولى هي الترجيح والاختيار بين البديلات ونحن نفرق بشكل واضح وحاسم بين يدنا وهي ترتعش بالحمى ، ويدنا وهي تكتب خطاباً .. فنقول إن حركة الأولى جبرية قهرية ، والحركة الثانية حرة اختيارية .. ولو كنا مسيرين في الحالتين لما استطعنا التفرقةويؤكد هذه الحرية ما نشعر به من استحالة إكراه القلب على شيء لا يرضاه تحت أي ضغط .. فيمكنك أن تُكره امرأة بالتهديد والضرب على أن تخلع ثيابها .. ولكنك لا تستطيع بأي ضغط أو تهديد أن تجعلها تحبك من قلبها ومعنى هذا أن الله أعتق قلوبنا من كل صنوف الإكراه والإجبار ، وأنه فطرها حرة ولهذا جعل الله القلب والنية عمدة الأحكام ، فالمؤمن الذي ينطق بعبارة الشرك والكفر تحت التهديد والتعذيب لا يحاسب على ذلك طالما أن قلبه من الداخل مطمئن بالإيمان ، وقد استثناه الله من المؤاخذة في قوله تعالى: { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ٌ} 106 سورة النحلوالوجه الآخر من الخلط في هذه المسألة أن بعض الناس يفهم حرية الإنسان بأنها علو على المشيئة ، وانفراد بالأمر فيتهم القائلين بالحرية بأنهم أشركوا بالله وجعلوا له أنداداً يأمرون كأمره ، ويحكمون كحكمه ، وهذا ما فهمته أنت أيضاً فقلت بتعدد المشيئات .. وهو فهم خاطئ .. فالحرية الإنسانية لا تعلو على المشيئة الإلهية إن الإنسان قد يفعل بحريته ما ينافي الرضا الإلهي ولكنه لا يستطيع أن يفعل ما ينافي المشيئة الله أعطانا الحرية أن نعلو على رضاه "فنعصيه" ، ولكن لم يعط أحداً الحرية في أن يعلو على مشيئته .. وهنا وجه آخر من وجوه نسبية الحرية الإنسانية وكل ما يحدث منا داخل في المشيئة الإلهية وضمنها ، وإن خالف الرضا الإلهي وجانب الشريعة وحريتنا ذاتها كانت منحة إلهية وهبة منحها لنا الخالق باختياره .. ولم نأخذها منه كرهاً ولا غصباً إن حريتنا كانت عين مشيئته ومن هنا معنى الآية : {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلا أَن يَشَاء اللَّهُ } 30 سورة الإنسانلأن مشيئتنا ضمن مشيئته ، ومنحة منه ، وهبة من كرمه وفضله ، فهي ضمن إرادته لا ثنائية ولا تناقض ، ولا منافسة منا لأمر الله وحكمه والقول بالحرية بهذا المعنى لا ينافي التوحيد ، ولا يجعل لله أنداداً يحكمون كحكمه ويأمرون كأمره .. فإن حرياتنا كانت عين أمره ومشيئته وحكمه والوجه الثالث للخلط أن بعض من تناولوا مسألة القضاء والقدر والتسيير والتخيير .. فهموا القضاء والقدر بأنه إكراه للإنسان على غير طبعه وطبيعته وهذا خطأ وقعت فيه أنت أيضاً .. وقد نفى الله عن نفسه الإكراه بآيات صريحة {إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} 4 سورة الشعراءوالمعنى واضح .. أنه كان من الممكن أن نُكره الناس على الإيمان بالآيات الملزمة ، ولكننا لم نفعل .. لأنه ليس في سنتنا الإكراه { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ } 256 سورة البقرة{ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } 99 سورة يونسليس في سُنة الله الإكراه والقضاء والقدر لا يصح أن يُفهم على أنه إكراه للناس على غير طبائعهم .. وإنما على العكس الله يقضي على كل إنسان من جنس نيته .. ويشاء له من جنس مشيئته ، ويريد له من جنس إرادته ، لا ثنائية ... تسيير الله هو عين تخيير العبد ، لأنه الله يسيِّر كل امرئ على هوى قلبه وعلى مقتضى نياته { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا } 20 سورة الشورى{ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً } 10 سورة البقرة{ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى } 17 سورة محمدوهو يخاطب الأسرى في القرآن { إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ } 70 سورة الأنفالالله يقضي ويقدِّر ، ويجري قضاءه وقدره على مقتضى النية والقلب .. إن شراً فشر وإن خيراً فخيرومعنى هذا أنه لا ثنائية .. التسيير هو عين التخيير .. ولا ثنائية ولا تناقض الله يسيِّرنا إلى ما اخترناه بقلوبنا ونياتنا، فلا ظلم ولا إكراه ولا جبر ، ولا قهر لنا على غير طبائعنا { فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى . وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى . وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى . وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } 5 سورة الليل{ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى } 17 سورة الأنفالهنا تلتقي رمية العبد والرمية المقدَّرة من الرب ، فتكون رمية واحدة.. وهذا مفتاح لغز القضاء والقدر .. على العبد النية، وعلى الله التمكين، إن خيراً فخير، وإن شراً فشروالحرية الإنسانية ليست مقداراً ثابتاً ، ولكنها قدرة نسبية قابلة للزيادة الإنسان يستطيع أن يزيد من حريته بالعلم .. باختراع الوسائل والأدوات والمواصلات استطاع الإنسان أن يطوي الأرض ، ويهزم المسافات ، ويخترق قيود الزمان والمكان .. وبدراسة قوانين البيئة استطاع أن يتحكم فيها ويسخرها لخدمته، وعرف كيف يهزم الحر والبرد والظلام ، وبذلك يضاعف من حرياته في مجال الفعل العلم كان وسيلة إلى كسر القيود والأغلال وإطلاق الحرية أما الوسيلة الثانية فكانت الدين .. الاستمداد من الله بالتقرب منه .. والأخذ عنه بالوحي والتلقي والتأييد .. وهذه وسيلة الأنبياء ومن في دربهم سخّر سليمان الجن وركب الريح وكلّم الطير بمعونة الله ومدده وشق موسى البحر .. وأحيا المسيح الموتى .. ومشى على الماء .. وأبرأ الأكمه والأبرص والأعمى ونقرأ عن الأولياء أصحاب الكرامات الذين تُطوى لهم الأرض وتكشف لهم المغيبات وهي درجات من الحرية اكتسبوها بالاجتهاد في العبادة والتقرب إلى الله والتحبب إليه .. فأفاض عليهم من علمه المكنون إنه العلم مرة أخرىولكنه هذه المرة العلم "اللدني"ولهذا يُلخص أبو حامد الغزالي مشكلة المخيَّر والمسيَّر قائلاً في كلمتين الإنسان مخيَّر فيما يعلم مسيَّر فيما لا يعلم وهو يعني بهذا أنه كلما اتسع علمه اتسع مجال حريته .. سواء كان العلم المقصود هو العلم الموضوعي أو العلم اللدنِّي ويخطئ المفكرون الماديون أشد الخطأ حينما يتصورون الإنسان أسير الحتميات التاريخية والطبقية .. ويجعلون منه حلقة في سلسلة من الحلقات لا فكاك له ، ولا مهرب من الخضوع لقوانين الاقتصاد وحركة المجتمع ، كأنما هو قشة في تيار بلا ذراعين وبلا إرادة والكلمة التي يرددونها ولا يتعبون من ترديدها وكأنها قانون : "حتمية الصراع الطبقي" وهي كلمة خاطئة في التحليل العلمي ، لأنه لا حتميات في المجال الإنساني ، وإنما على الأكثر ترجيحات واحتمالات .. وهذا هو الفرق بين الإنسان ، وبين التروس ، والآلات والأجسام المادية .. فيمكن التنبوء بخسوف الشمس بالدقيقة والثانية ، ويمكن التنبؤ بحركاتها المستقبلة على مدى أيام وسنين .. أما الإنسان فلا يمكن أن يعلم أحد ماذا يُضمر وماذا يُخبئ في نياته ، وماذا يفعل غداً أو بعد غد .. ولا يمكن معرفة هذا إلا على سبيل الاحتمال والترجيح والتخمين ، وذلك على فرض توفر المعلومات الكافية للحكم ..وقد أخطأت جميع تنبؤات كارل ماركس ، فلم تبدأ الشيوعية في بلد متقدم كما تنبأ ، بل في بلد متخلف ، ولم يتفاقم الصراع بين الرأسمالية والشيوعية ، بل تقارب الاثنان إلى حالة من التعايش السلمي ، وأكثر من هذا فتحت البلاد الشيوعية أبوابها لرأس المال الأمريكي .. ولم تتصاعد التناقضات في المجتمع الرأسمالي إلى الإفلاس الذي توقعه كارل ماركس ، بل على العكس ، ازدهر الاقتصاد الرأسمالي ووقع الشقاق والخلاف بين أطراف المعسكر الاشتراكي ذاته أخطأت حسابات ماركس جميعها دالة بذلك على خطأ منهجه الحتمي .. ورأينا صراع العصر الذي يحرك التاريخ هو الصراع اللاطبقي بين الصين وروسيا ، وليس الصراع الطبقي الذي جعله ماركس عنوان منهجه .. وكلها شواهد على فشل الفكر المادي في فهم الإنسان والتاريخ ، وتخبطه في حساب المستقبل .. وجاء كل ذلك نتيجة خطأ جوهري ، هو أن الفكر المادي تصوَّر أن الإنسان ذبابة في شبكة من الحتميات .. ونسي تماماً أنّ الإنسان حر .. وأن حريته حقيقة أمّا كلام الماديين عن حكم البيئة والمجتمع والظروف ، وأن الإنسان لا يعيش وحده ولا تتحرك حريته في فراغنقول ردّاً على هذا الكلام : إن حكم البيئة والمجتمع والظروف كمقاومات للحرية الفردية إنما يؤكد المعنى الجدلي لهذه الحرية ولا ينفيه .. فالحرية الفردية .. لا تؤكد ذاتها إلا ّ في وجه مقاومة تزحزحهاأما إذا كان الإنسان يتحرك في فراغ بلا مقاومة من أي نوع فإنه لا يكون حراً بالمعنى المفهوم للحرية، لأنه لن تكون هناك عقبة يتغلب عليها ويؤكد حريته من خلالها